قطاع السكن.. 60 سنة من تكريس البعد الاجتماعي للدولة الجزائرية

يعرف ديناميكية غير مسبوقة في السنوات الأخيرة

 

رغم أن الجزائر لم تولي قطاع السكن الأولوية المطلقة غداة الاستقلال بعد أن استقر أغلب الجزائريون في السكنات الفارغة التي تركها المعمرين الفرنسيين، إلا أنه ومع مرور الوقت تحول السكن من ملف ثانوي إلى ملف يحمل طابع الأولوية خاصة مع ارتفاع نسبة النمو الديمغرافي وبداية ارتفاع المستوى المعيشي للجزائريين عن ذلك الذي كان عليه الوضع إبان فترة الاستعمار، ما جعل السلطات الرسمية آنذاك تعيد النظر في الموضوع.

وفي سنة 1964 بالتحديد تم الشروع في إنجاز مساكن جديدة بهدف استيعاب العدد الهائل من الجزائريين الذين تدفقوا من الأرياف نحو المدن الكبرى في جزائر الاستقلال، فتقرر إنجاز أكثر من 75 ألف وحدة سكنية جديد في المدن وأكثر من 35 ألف وحدة أخرى في الأرياف مع الاهتمام بإتمام المشاريع التي كانت قيد الإنجاز خلال فترة الاستعمار، قبل أن يتم التوجه نحو تبني نظام الاقتصاد الموجه الذي أفرز مخططات التنمية التي جاءت بمشاريع إسكان متعددة بينما فشل بعضها في تحقيق الهدف المرجو منها جاء البعض الآخر بنتائج إيجابية خاصة خلال الفترة من 1970 إلى 1973 التي يعتبرها المؤرخون والباحثون الخطوة الفعلية صوب التنمية في الجزائر التي كانت ترمي في الأساس إلى تحسين ظروف الحياة للمواطن وتلبية الحاجيات الأساسية للمجتمع والتي كان ولا يزال السكن ركيزته الأساسية.

مع بداية الثمانينات تم تحديد رهانات جديدة للقضاء على أزمة السكن التي استفحلت في الجزائر وكان الرهان في ذلك الوقت على إنجاز 450 ألف وحدة سكنية غير أن هذا المخطط كان مصيره الفشل بسبب كارثة زلزال الأصنام الذي خلّف خسائر مادية معتبرة، ما دفع الحكومة وقت ذاك إلى إعداد مخطط آخر أعطى دفعا قويا ونتائج مشجعة جاءت مخالفة للنتائج السابقة في ظل تحرير السكن والتوجه نحو دعم المبادرات الفردية التي أفرزها قانون 86-07 في 04 مارس 1986، الذي فتح الأبواب أمام الخواص لمواجهة الطلب المتزايد على السكن مما أسفر عن ازدهار عقاري رافقه ظهور نمط سكني جديد عرف بالسكن الترقوي، الذي ظلّ يتطور فترة بعد أخرى مانحا دفعا قويا للسياسة السكنية المنتهجة من قبل الدولة استمر لغاية اليوم.

أما في مرحلة التسعينيات فقد عرف القطاع تباطؤا منطقيا يرجع إلى الأحداث الأمنية الصعبة التي عرفتها الجزائر بسبب ما يعرف بـ”العشرية السوداء” إضافة إلى تقلبات أسواق النفط الذي كان العائد الرئيسي للخزينة العمومية التي تدعم ملف السكن، ومع ذلك لم تثن هذه العقبات من عزيمة الدولة الجزائرية التي قامت بإنجاز حوالي مليون و140 ألف وحدة سكنية إلى غاية منتصف التسعينات.

ولم تتوقف محاولات إنعاش قطاع السكن عند هذا الحدّ بل أقرت الدولة آليات عدّة ومخططات وبرامج وتعليمات وقوانين غيرت فيها من نمط تمويل السكنات ومن إجراءات الحصول عليه في كل فترة بهدف تلبية الحاجيات الضرورية للمواطن.

مع بداية القرن الحالي شهدت الحظيرة السكنية توسعا كبيرا، وذلك بفضل البرامج المقررة تماشيا مع متطلبات المواطنين، حيث جندت السلطات كل الإمكانيات المادية والبشرية من أجل تخفيف الأزمة بإعادة النظر في السياسة المنتهجة وتبني صيغ تمس مختلف شرائح المجتمع وقدراتهم المادية، منها برنامج عدل، الترقوي المدعم والترقوي العمومي وهي صيغ لاقت استحسان المواطنين باعتبارها تلبي احتياجاتهم وفق أسعار تتوافق وظروفهم الاجتماعية وإمكانياتهم المادية.

أما بالنسبة لبرنامج الدعم الاجتماعي المرتبط بملف السكن فلم يقتصر على دعم البرامج السكنية لميسوري الحال بل خصت الحكومة الفئات الهشة والمعوزة ببرنامج ضخم ارتكز على القضاء على السكنات الهشة، وبحلول 2016، نجحت الجزائر في أن تكون أول عاصمة إفريقية خالية من سكنات “الصفيح”، وشاركت الأمم المتحدة الجزائر هذا الإنجاز، إضافة إلى ذلك واصلت الحكومة مسعاها لتوفير السكن الاجتماعي الذي رهانه رفع الغبن على الفئات الهشة ومحدودة الدخل وعملت إلى غاية 2018 على تسجيل انجازات ضخمة قامت بموجبها بمنح آلاف العائلات مساكن لائقة.

ولأن ملف السكن كان أحد أهم الركائز التي تكرس البعد الاجتماعي للدولة الجزائرية ركزت الحكومات المتعاقبة على التمسك بصيغة السكن العمومي الإيجاري أو ما يعرف سكنات “السوسيال” الموجهة لمحدودي الدخل، هذه الصيغة كانت ولا تزال تحظى بحصة الأسد من برامج الإنجاز وعمليات التوزيع في كل مناسبة، فعلى مدار البرامج الخماسية للفترة الممتدة بين 2010 – 2014 / 2015 – 2019 تم توزيع أزيد من 850 ألف سكن عمومي إيجاري، لترتفع وتيرة الإنجاز والتوزيع لأكثر من ذلك منذ تولي الرئيس عبد المجيد تبون سدة الحكم، أين تم خلال سنة 2020 توزيع أزيد من 47 ألف سكن بينما تم خلال 2021 توزيع أزيد من 55 ألف وحدة سكنية بصيغة “السوسيال”، وبعدما كان ملف السكن الاجتماعي يشكل محور احتجاجات عارمة كانت تندلع من حين لآخر بات اليوم مكسب للجزائر الجديدة وعامل لتحسين التماسك والتوازن الاجتماعيين.

وفي هذا السياق يقول الإطار السابق بقطاع السكن فريد معالي، أن تتبع توجهات الدولة قديما وحديثا فيما يتعلق بملف السكن يجعلنا نؤكد أن الدولة الجزائرية أيقنت مبكرا أهمية التخطيط لسياسات السكن كبعد من أبعاد التنمية الشاملة، معتبرا في تصريح للموقع الإخباري الإلكتروني “عاجل نيوز” أن النظرة للسكن لم تعد لصيقة بالتوجهات التنموية للدولة كونه قطاع غير استثماري بل تغيرت جذريا وأصبح القطاع من أولويات وعمل القيادة السياسية ومختلف الأجهزة المؤسساتية التابعة له، وذلك بهدف تحقيق الرفاهية للمواطنين.

وأضاف يقول أن تجربة السكن الاجتماعي خير دليل على كلامه، مشيرا أن العمل حاليا منصبّ على وضع استراتيجيات محكمة للتسيير الحضاري وحركة العمران العصرية من أجل تحسين محيط المواطن أكثر.

وإن كانت جهود الدولة لم تتوقف طيلة الستين سنة الماضية عن تلبية الطلب المتزايد على السكن فإن قيامها باستحداث صيغة سكنات “عدل” التي وجهت لفئة متوسطي الدخل والتي أطلقت في 2001 ثم في 2013 على يد رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون الذي كان حينها وزيرا مكلفا بحقيبة السكن يمكن وضعها في خانة المشاريع الأكثر نجاعة منذ الاستقلال إلى غاية اليوم، خاصة وأن هذه الصيغة رفعت التحدي من أجل تحقيق حلم السكن للجزائريين، فلم تكتف الدولة بدعم إنجاز هذه المشاريع فقط بأغلفة مالية ضخمة بل أقامت هذه المشاريع في عدّة ولايات وفي مساحات ضخمة مجهزة بكافة الوسائل التي تسهل حياة المواطنين وتلبي حاجياتهم في الحصول على مساكن لائقة.

بل إن في سنة 2017 نجحت الجزائر في طي ملف ما يعرف بـ”عدل 1″، والإجراءات جارية لطي ملف “عدل 2″، إضافة إلى أن هذه النماذج من صيغ السكن ضم مدن نموذجية في تاريخ الجزائر المستقلة، والجهود قائمة لتعميم هذا المسعى، الذي يراهن على تجاوز إشكالية “المراقد” حيث أعطيت تعليمات صارمة في هذا الصدد من أجل وقف توزيع السكنات التي لا تتوفر على متطلبات الحياة من المرافق الضرورية منها المدارس والمرافق التجارية والمساحات الخضراء وحتى الهياكل التابعة لقطاع النقل وغيرها.

وعن أهمية برنامج “عدل” في التقليل من حدة أزمة السكن يقول الإطار بأحد فروع وكالة “عدل” حمزة مختاري أن برنامج عدل جاء لإيجاد الحلول لإشكالية السكن على المستويين الكمي والنوعي ومن ثم الاستجابة لمتطلبات المعبر عنها وإرضاء شريحة مهمة من الجزائريين وهم متوسطي الدخل، وأضاف المتحدث قائلا في تصريح لـ”عاجل نيوز” أن الملف وخلال معالجته لم يخل من التعقيدات والصعوبات غير أن الدولة الجزائرية ومن ورائها وزارة السكن ووكالة “عدل” التي تشرف على كل صغيرة وكبيرة فيما يخص هذه الصيغة السكنية استطاعت رفع التحدي والوصول لأرقام مشجعة حول نسب التوزيع والجودة في بناء السكنات، مشيرا أن وتيرة الإنجاز ارتفعت بشكل كبير خلال السنتين الأخيرتين بعد أن تم حلّ مشاكل التمويل والعقار لتقترب وكالة “عدل” من طي ملف “عدل 2” نهائيا وهو ما يمثل بشرى خير للجزائريين.

ولأن قطاع السكن يعتبر قطاع مهم وحيوي في أي دولة لكونه لا يخدم المستفيدين فقط، بل يخدم الأنشطة الاقتصادية المتعددة في البلاد، إذ تستفيد غالبية الأنشطة الاقتصادية من النمو المرافق لنمو قطاع السكن، أصبح اليوم قطاع السكن يمثل أحد أهم التحديات التنموية التي تواجهها الجزائر خلال هذه المرحلة الراهنة، حيث تحرص الجزائر في سياستها على إدارة هذا الملف من منظور تنموي شامل، يعتمد في الأساس على الارتقاء بكافة الخصائص المرافقة له والتي تشمل التعليم، الصحة، الثقافة، فرص العمل، التمكين الاقتصادي وغيرها من المحاور التي كانت مهملة في إعداد البرامج والمشاريع السكنية خلال العشريات الماضية.

ولعل الإنجازات الضخمة التي تحققت خلال السنتين الأخيرتين خير دليل وثمرة نجاح الاستراتيجية التي يدار بها هذا الملف، غير أن هذه الإنجازات المحققة على أرض الواقع تقابلها العديد من التحديات خاصة إذا ما نظرنا إلى التوسع الديمغرافي للجزائريين، الأمر الذي يقودنا نحو الحديث على أجندة القطاع السنوات المقبلة، هذه الأجندة ترتكز على البعد التنموي للسكن، فبعد تخفيف أزمة السكن بشكل ملحوظ فإن التحدي المقبل يكمن في إعادة النظر في القوانين المؤطرة للقطاع، وكذا القيام بعملية تقييم دقيقة لما تحقق خلال السنوات الأخيرة.

كما يعوّل على بنك الإسكان المرتقب إطلاقه قريبا بإشراك مختلف الفاعلين في تمويل مشاريع السكن، واستحداث آليات جديدة للقيام بذلك، إضافة إلى إعادة تأهيل الأنسجة العمرانية القديمة والبحث عن الجودة في مجال الإنتاج العمراني في إطار التنمية المستدامة، مع الحفاظ على التراث والهوية الثقافية والدينية للجزائريين ضمن التحديات الملقاة على عاتق القائمين على ملف السكن في الجزائر.

هذا الأخير الذي يعتبر الالتزام رقم 28 لرئيس الجمهورية، عبد المجيد تبون، في برنامجه الرئاسي المتضمن 54 نقطة والذي طرحه على الجزائريين يوم أعلن عن ترشحه لرئاسيات 12 ديسمبر 2019، هذا التعهد تحول منذ ذلك الوقت إلى حجر الزاوية في اجتماعات مجالس الحكومة والوزراء إذ لا يفوت رئيس الجمهورية لقاءه بالطاقم التنفيذي، دون مساءلتهم عن مدى تقدم مشاريع السكن، تأكيدا منه على الأولوية القصوى الذي يحوزها هذا الملف، ويؤكد الالتزام الـ 28 في برنامج رئيس الجمهورية على أن الحصول على السكن أولوية مطلقة ويهدف إلى حلّ أزمة السكن بشكل نهائي من خلال التركيز على الأسر ذات الدخل المنخفض في الحصول على سكن لائق عبر مختلف الصيغ التي تطرحها الحكومة للقضاء على أزمة السكن، من خلال القضاء النهائي على الأحياء القصديرية، وكذا تسوية المشاكل المتعلقة بالبناءات الهشة، وصولا إلى رهانات أخرى تتمثل في وضع آليات ملائمة لمحاربة الغش في منح السكنات، وبالعودة إلى أرض الواقع نجد أن البرنامج الخاص بالرئيس تبون والتزاماته التي وعد بها الجزائريين فيما يخص ملف السكن فقد تجسد الكثير منها على أرض الواقع وأخرى في طريقها إلى التجسيد ضمن تحديات يعكف الرئيس والجهاز التنفيذي على تكثيف كافة شروط إنجاحه، سواء تلك المتعلقة بإنشاء تجمعات سكانية وأقطاب جديدة بالمدن الكبرى، أو التسريع من وتيرة تنفيذ المشاريع، وغيرها من الالتزامات.

ويرى الباحث في علم الاجتماع عبد القادر سنوسي أن ملف السكن يعتبر احتياج اجتماعي أساسي ويحتل المرتبة الثانية بعد الغذاء إذ أنه ضرورة قصوى لا يمكن الاستغناء عنها في أي مجتمع، ومن هذه المنطلقات يؤكد المتحدث في تصريح لـ “عاجل نيوز”، جعلت الدولة تضعه ضمن أولويات مرحلة البناء والتشييد سابقا واليوم يقود هذا الملف كافة الإصلاحات التي جاءت بها الجزائر الجديدة، ويتجلى هذا من خلال السياسات السكنية التي تم إقرارها في السنوات الأخيرة التي انتقلت فيها الجزائر من مرحلة تسيير أزمة السكن إلى مرحلة تسيير الطلب على السكن.

ولا يختلف اثنان على أن ملف السكن يأخذ الحيز الكبير في البرنامج الرئاسي خاصة وأن الرئيس عبد المجيد تبون الذي كان وزيرا للسكن في سنوات 1999، 2001، 2002، 2012 إلى غاية 2014، هو أكثر الرؤساء الذين حكموا الجزائر اطلاعا على الملف كما أن فترة تسيره لهذا القطاع وزاريا كانت الأكثر إطلاقا للمشاريع السكنية وتوزيع المساكن التي رفعت من حجم الحظيرة الوطنية للسكن ليبقى الرهان المستقبلي هو رقمنة القطاع كليا لطي هذا الملف.

ويمكن القول أن قطاع السكن اليوم يعيش “ديناميكية” غير مسبوقة، من حيث تسارع وتيرة الإنجاز وتسليم السكنات عبر مختلف الصيغ، بعد ركود نسبي بسبب جائحة كورونا التي فرضت منطقها على ورشات إنجاز السكن في الجزائر، ويقول الأستاذ المحاضر في كلية العلوم الاجتماعية بجامعة وهران 1 – أحمد بن بلة_ بوشريط حسان أن الجزائر اليوم تتوفر على الإمكانيات المالية التي تؤهلها لطي ملف ما يسمى بـ”أزمة” السكن، ويوعز محدثنا ذلك إلى وجود رؤية لإدارة هذا الملف من خلال تركيزها على عصرنة السكن وتحسين نوعيته، باعتماد تكنولوجيات حديثة في عمليات الإنجاز.

ويتوافق فريد معالي مع الطرح الذي قدمه الأستاذ بوشريط حسان إذ أوضح معالي أن الجزائر اليوم تركز في إدارة مشاريع السكن المستقبلية على المدن الذكية وهي مدن توفر لقاطنيها رفاهية اجتماعية واقتصادية وتنمية محلية في جميع المجالات من نقل وصحة وتعليم وترفيه، وكانت بداية هذا الرِّهان بإنشاء منطقة سيدي عبد الله الذكية بالعاصمة التي وإن لم تكن قد وصلت إلى الرهان المنشود إلا أنها تسير بخطى ثابتة لأن تكون في المستقبل القريب مدينة ذكية.

Exit mobile version