خلال السنتين الأخيرتين، عاد الاهتمام الرسمي بضرورة التوجه نحو الرقمنة في تسيير الشأن العام في الجزائر، من منطلق أن الرقمنة أضحت حتمية وضرورة لتحسين وترقية الخدمات للوصول إلى معاملات مرقمنة في جلّ القطاعات وهو التحدي الذي يعد بمثابة المعركة التي تخوضها الحكومة اليوم في عهد الجزائر الجديدة.
قبل عقود من الزمن، كان عمي عبد الله لمشوت الخمسيني وهو أحد مشجعي الفريق الوطني يحرص كل الحرص على متابعة مخلف مباريات “الخضر” من مدرجات الملعب لوحده دون أفراد عائلته رغم شغفهم بعالم المستديرة، غير أن تجربة رقمنة تذّاكر الدخول إلى الملاعب التي استحدثت في الجزائر مؤخرا سمحت له بعيش هذه التجربة برفقة زوجته وأبنائه الذين لم يتموا السنة الحادية والعشرين من العمر بعد ضمن تجربة ستبقى خالدة في ذاكرة هذه العائلة حسب تعبيره.
- خطوات أولى
يسرد عبد الله لمنصة عاجل نيوز الإخبارية عن هذه التجربة قائلا: ” لقد شجّع قرار الحكومة ممثلة في وزارة الشباب والرياضة الرامي إلى اعتماد تذّاكر إلكترونية لمباريات بطولة أفريقيا للاعبين المحليين لكرة القدم التي احتضنتها الجزائر شهر جانفي من العام الحالي 2023 من خلال اقتناء التذّاكر دون عناء التنقل إلى مقرّات بيعها والوقوف في طوابير طويلة لاقتنائها في اتخاذ خطوة حضور فعاليات التظاهرة رفقة عائلته، ومناصرة أشبال الناخب الوطني جمال بلماضي عن قربّ”.
وكان لافتا في هذه الدورة الإقبال الكبير من قبل الأسر الجزائرية على الملاعب عكس ما كان عليه الأمر في السابق، وشهدت التظاهرة حضور النساء والأطفال القصر برفقة عائلاتهم إلى مدرجات الملاعب حاملين معهم تذّاكرهم الرقمية التي تم شراءها عبر منصات إلكترونية من ضمنها منصة “تذكرتي” التي كانت لها تجربة رائدة في تسيير هذه المرحلة في انتظار تعميم العملية على منصات رقمية أخرى في المستقبل القريب، خاصة وأن الجزائر تتوجه نحو رقمنة كافة الملاعب المتواجد على التراب الوطني وبشكل تدريجي على أن تكون التجارب في مراحلها الأولية عبر الملاعب المستحدثة مؤخرا والتي هي قيد التشييد، إذ لن يكون طبع التذّاكر ورقيا كما هو معمول به في الوقت الحالي بل يكفي نسخ رمز الاستجابة السريعة “كيو آر كود” على أجهزة مخصصة بمداخل الملاعب من الأجهزة الذكية المحمولة كالهواتف النقالة للتأكد منه.
ويشددّ محدثنا على أن رقمنة الأنشطة الرياضية في الجزائر سواء تعلق الأمر بمباريات كرة القدم وقبلها منافسات ألعاب البحر المتوسط التي جرت قبل سنة وضمت مختلف الرياضات، مكنت المواطنين من سلاسة الحصول على التذّاكر لمتابعة مجريات هذه المنافسات وهو ما استحسنه.
- مكان واحد ..أصوات مُتعدّدة
بدورها تقول السيدة آمنة. ب وهي ثلاثينية تنحدر من إحدى ولايات الشرق الجزائري وجدناها برفقة صديقات لها وهنّ يتأهبن لدخول ملعب 19 ماي 1956 بولاية عنابة لمتابعة مجريات ودية رفقاء القائد رياض محرز أمام منتخب تونس التي جرت شهر جوان 2023، أنّ الرقمنة التي طالت عملية اقتناء تذّاكر هذه المباراة حفزتها وصديقاتها على متابعة لاعبي المنتخب الوطني الأول لكرة القدم عن قرب ، إذ أن الإجراء أغناهن حسب تعبيرها عن طوابير شراء التذّاكر من جهة ومن جهة ثانية سمح لهن بتحديد المدرجات التي يمكنهن من متابعة مجريات المباراة، ومعرفة مقاعدهن واختيارهن أيضا، كما سمح لهن بتجنب النظرة السائدة في الجزائر التي تقول أن الملاعب ليست أماكن مناسبة للنساء والعائلات، بل وأنها تشكل خطرا على الكثير من الشباب فما بالك بالعنصر النسوي، وهي النظرة التي كانت السبب الرئيسي في عزوف الكثيرين عن التواجد في الملاعب. كما أن عائلات كثيرة تمنع أبناءها قبل النسوة من التوجّه لمشاهدة المباريات من مدرجات الملاعب، فإضافة إلى التدافع لاقتناء التذّاكر وسقوط جرحى خلال هذه العملية في الكثير من المرات، توجد إشكالية أخرى وهي الاكتظاظ والطوابير التي تشهدها مداخل الملاعب أيام المباريات ما يضعهن في حرج كبير، وتضيف المتحدثة في دردشتها معنا قائلة: “رقمنة التذّاكر الخاصة بدخول الملاعب في الجزائر تعد بمثابة خط دفاعي متقدم لنا نحن النساء”، قبل أن تشدد على سلاسة الوصول إلى الملعب والدخول إليه في تجربتها الأولى بالملاعب الجزائرية آملة أن تكون هناك آليات رقمية أكثر تخص الرياضة في الجزائر بشكل عام وكرة القدم بشكل خاص.
- ثقافة ناعمة
ويتفق الدكتور في الفلسفة بكلية العلوم الإنسانية والاجتماعية بجامعة الجزائر 2، سعيد أولبصير مع الطرح الذي تقدمت به محدثتنا آمنة. ب، إذ أشار محدث عاجل نيوز أنّ رقمنة التّذاكر التي تسمح بالدخول إلى الملاعب في الجزائر جلبت إلى الملاعب نوعا مختلفا من الجمهور عن ذلك الذي تعودنا عليه في السابق، فمع دخول الرقمنة للملاعب الجزائرية تعرفنا على جمهور هادئ يتصرف بطريقة حضارية لا تختلف عما نشاهده في أعرق ملاعب أوروبا موطن اللعبة، فبلغة الأرقام الرسمية لم تحص إدارات الملاعب التي شهدت مباريات “الشان” الأخير الذي عرف حضورا قياسيا للعائلات الجزائرية في المدرجات، أي تحطيم لأي مقعد من ضمن أكثر من 130 ألف مقعد تضمنتها ملاعب بالجزائر العاصمة، وهران، عنابة وقسنطينة، وهو مؤشر إيجابي حسب المتحدث، الذي أشار إلى أننا في عهد التذّاكر الورقية والدخول التقليدي إلى الملاعب كان بعض جمهور الكرة لا يمكنه أن يخرج من الملعب من دون التنكيل بالمقاعد كتعبير عن الضغط الذي عاشه من طوابير لاقتناء التذّاكر وأخرى لدخول الملعب وصولا إلى المقعد المخصص له للجلوس ومناصرة فريقه هذا إن وجده، لكن الملفت بعد الرقمنة التي شهدتها هذه العملية عدّلت من سلوكات هذه الفئة التي كانت ترى في الملعب وضغوطاته فضاء لإفراغ شحنات الغضب.
في هذا الإطار تشير بعض التصريحات لـ” عاجل نيوز” أن الرقمنة كانت آلية ناجعة في القضاء على العنف داخل الملاعب وفي محيطها، لافتين أن التوجه إلى التذّكرة الإلكترونية مع مرور الوقت سيصنع تحولا في المجتمع الجزائري وعلاقته بعالم المستديرة، مع اختفاء الصور المؤسفة لاحتشاد المناصرين أمام أكشاك الملاعب لساعات مع ملاسنات فيما بينهم وأخرى مع المنظمين ورجال الأمن وهي الظاهرة التي يبدو أنها اليوم قد ولت إلى غير رجعة.
- ما بعد الرياضة ..الواجهة
وبعيدا عما حققته هذه الخطوات من نجاعة سعيا للوصول إلى رقمنة كافة الأعمال والأنشطة المتعلقة بالأنشطة الرياضية في الجزائر، يشير الباحث في السوسولوجيا بكلية العلوم الانسانية والعلوم الاجتماعية عبد الحميد مهري بجامعة قسنطينة 2 أحمد دناقة في حديث لـ “عاجل نيوز” أن الصورة التي قدمتها العائلات الجزائرية في الملاعب خلال التظاهرات الرياضية الكبرى التي عرفتها الجزائر في السنتين الأخيرتين هي تسويق للسياحة في الجزائر وتسويق لتاريخ وثقافة أرض المليون ونصف المليون شهيد، إذ كانت فرصة من ذهب للخروج من عزلة دولية عرفتها الجزائر على مدار العشريات الماضية، إذ لم تحتضن أيا من هذه التظاهرات بهذا المستوى العالي الذي لا يراه العرب إلا في الميادين الأوروبية.
وشدد الباحث هنا على أن لولا هذه الاجراءات المتسارعة نحو الرقمنة في انتظار تعميمها بصورة أشمل لما حرص الكثير من المؤثرون العرب على زيارة الملاعب الجزائرية وعيش تجربة تواجد الأسر والعائلات الجزائرية بها بهذا الشكل اللافت كما شاهدناه عبر منصات التواصل الاجتماعي المتعددة.
هذا يعني حسبه أن الرقمنة التي طالت تسيير اقتناء تذّاكر الدخول إلى الملاعب وتوزيع المناصرين عبر المدرجات يمكنها في المستقبل القريب أن تحقق مكاسبا أكبر للجزائر عبر رقمنة خدمات أخرى ومع تألقها في التنظيم ما سيسمح بتعزيز فرص الوجهة السياحية للجزائر لاستقبال سياح من كافة الأقطار، خاصة وأن البيع الإلكتروني للتذّاكر الخاصة بالتظاهرات الرياضية كان فرصة لتعديل سلوكات مناصرين كنا نشاهدها على مدار سنوات بأنها سلوكات قاتمة أفرزتها ظروف اقتناء التذّاكر من جهة ومن جهة أخرى ظروف الدخول إلى هذه الفضاءات ومشاهدة مجريات المباريات من انتظار بالساعات دون أكل أو شرب وأحيانا في ظروف جوية صعبة صيفا وشتاء.
- أدوار هامة
اعتماد التذّاكر الإلكترونية في الجزائر لدخول الملاعب والفضاءات ذات الصلة بالشأن الرياضي خلال السنتين الماضيتين يتم حصرا عبر منصة “تذكرتي” وهي منصة تشرف عليها مصالح تابعة لقطاع الشباب والرياضة الحكومية، ويتسنى لكل محبي كرة القدم حجز تذاكرهم عن بعد، في خطوة مهمة لرقمنة الأنشطة المرتبطة بالتظاهرات الرياضية في الجزائر، وتتخصص المنصة إجمالا في الحصول رقميا على التذّاكر الخاصة بمختلف الفعاليات الرياضية بما فيها مقابلات كرة القدم بين الفرق الناشطة في الدوري الجزائري ولا تقتصر فقط على مباريات المنتخب الوطني الأول أو التظاهرات الكبرى.
وتسمح المنصة لكل المناصرين الراغبين في حضور هذه الفعاليات من اقتناء التذّاكر إلكترونيا بطريقة سهلة وعصرية، وعن كيفية ومراحل اقتناء التذّاكر يكفي الدخول إلى المنصة الرقمية تذكرتي، يتم اختيار المباراة، ملء البيانات الشخصية، اختيار منطقة ومكان الجلوس في الملعب التي يتم تأشيرها على التذكرة واختيار مكان استرجاع التذّاكر بعد دفع تكلفتها إلكترونيا أيضا.
وما يميز المنصة أنها تسمح للمستخدم بشراء التذّاكر على مدار الساعة، دون الحاجة إلى الانتظار في طوابير الشبابيك الطويلة والشاقة والمرهقة، كما يمكن للمستخدمين دفع قيمة التذّكرة عبر وسائل الدفع الإلكترونية المتاحة مثل البطاقات الائتمانية سواء البريدية أو البنكية مما يوفر عليهم الكثير من الوقت والجهد.
وحسب أرقام رسمية صدرت مطلع العام الجاري 2023 عن تجمع النقد الآلي فقد حقّقت عمليات الدفع الإلكتروني أرقاما قياسية وغير مسبوقة من خلال عمليات الدفع الإلكترونية عبر منصة تذكرتي قدرت فيما مجموعه بـ 30 ألف عملية تخص البنك الوطني الجزائري لوحده خلال بطولة “الشان” الأخيرة التي احتضنتها الجزائر.
ويمكن القول أن منصة تذكرتي الإلكترونية أنها من أبرز الآليات الرقمية التي عززت تجربة الجمهور في شراء تذّاكر الفعاليات الرياضية في الجزائر، والتي يمكنها أن تساهم في المستقبل القريب في تطوير الأنظمة المعلوماتية وتنويع وسائل الدفع الإلكتروني، لاسيما تلك المتعلقة برقمنة الخدمات والمنتجات والحفاظ على بنية تحتية تقنية متينة وآمنة.
- حلول على طاولة الحكومة
بالمحصِّلة توضح خارطة الطريق التي وضعتها الحكومة حول الخدمات المرقمنة في الجزائر ضمن ما بات يعرف بالتحول الرقمي أن الخدمات التي تقدمها منصة تذكرتي ما هي إلا لبنة أولى في درب إرساء الحوكمة الإلكترونية التي تراهن عليها الحكومة اليوم في وقت يعرف فيه العالم قفزة غير مسبوقة نحو بيئة افتراضية وهو ما يحرص رئيس الجمهورية عبد المجيد تبون في كلّ مرة على التأكيد عليه وهي الرهانات التي دفعت بمختلف القطاعات الوزارية إلى استبدال الوثائق الملموسة بالتسجيلات الرقمية عبر منصّات خاصة لم يكن قطاع الشباب والرياضة في منأى عنه.
- للخبراء رأي ومقترحات !!
وبعيدا عن الرياضة يؤكد اقتصاديون جدوى الرقمنة في تحقيق التحول الرقمي حيث أبرز الخبير الاقتصادي ورئيس قسم العلوم الاقتصادية بكلية العلوم الاقتصادية والتجارية وعلوم التسيير بجامعة حسيبة بن بوعلي الدكتور عبد الكريم شنايت أن الرقمنة تعد مكونا رئيسيا للتحول الرقمي الذي تنشده الجزائر، إذ يعد التحول الرقمي وفق المتحدث دمج التكنولوجيا الرقمية في جميع مجالات الأعمال أو المنشآت عبر أجهزة محمولة آمنة وسهلة وسريعة وذات فاعلية أكبر.
وفيما يخص الأهمية التي أتاحتها رقمنة التذّاكر التي قدمها قطاع الشباب والرياضة الحكومي أمام الجمهور المتعطش لمتابعة المنافسات الرياضية، أكدّ المتحدث أن منصة تذكرتي على سبيل المثال وفي حالة تعميمها على النوادي الرياضية الناشطة في الجزائر ستسمح لهم كشركاء في الحصول على معلومات دقيقة حول الجانب المالي لكل مقابلة، بالمقابل ستسمح أيضا الخطوة للجهات الوصية من الاطلاع على المداخيل الحقيقية للأندية وبذلك تخلق نوع من الشفافية هي غائبة في الآليات التقليدية التي تعتمد على الورقة.
إضافة إلى ذلك تحارب الرقمنة ظاهرة السوق السوداء التي طغت في السنوات الماضية على المشهد الرياضي في الجزائر إذ ستبطل عملية رقمنة التذّاكر على سبيل المثال عملية إعادة بيعها ورفع أسعار بعض المقابلات الهامة لأرقام فلكية، كون أن التذّكرة الرقمية ستحمل اسم الشخص المسجل والذي بدوره سيكون قادر على شراء تذكرة واحدة فقط لنفسه وهذا على سبيل الحصر دون اغفال إيجابيات عديدة جاءت بها هذه الآلية.
