جدل الغذاء بين العلم والعاطفة.. حين يغيب العقل ويحضر “البوز”

 

برزت على الساحة الجزائرية مؤخرا حادثة تعكس بوضوح خطورة الانزلاق نحو الخطاب العاطفي على حساب المنهج العلمي الرصين. فبعد أن أثارت صانعة محتوى جدلاً واسعًا بادعائها وجود “قشرة بنية” ضارة في منتج غذائي لعلامة تجارية رائدة، متهمة إياها باحتواء مواد كيميائية مسرطنة ومحظورة دوليًا، كان الرد الصادم من المتحدث باسم العلامة التجارية.

بدلاً من تفنيد الادعاءات بأدلة وبراهين علمية، اختار المتحدث مسارًا آخر تمامًا. انحرف عن جوهر الموضوع، مهاجمًا استخدام اللغة الفرنسية، مستعرضًا مؤهلاته اللغوية والأكاديمية، ومبرزًا أنه يتحدث “بلسان الشعب”. هذا التوجه العاطفي، للأسف، وجد صدى واسعًا لدى الكثيرين، وانتشر المقطع كالنار في الهشيم، بل وحظي بإشادة صفحات إلكترونية “لبلاغته” لا لمضمون رده.

إن هذه الحادثة تكشف عن معضلة حقيقية في طريقة تعاملنا مع القضايا الحساسة التي تمس صحة المستهلك. ففي غمرة هذا الجدل، نسي الجميع أن القول الفصل في مثل هذه الأمور لا يعود للكلمات الرنانة والتعابير المنمقة، بل للمخابر والتحليلات العلمية الدقيقة. لقد غابت المقارعة الفكرية الهادئة، وحل محلها الخطاب الانفعالي، وتشخيص النوايا، بدلًا من مناقشة الوقائع على أساس الأدلة.

إن الحل الأمثل لمثل هذه القضايا هو إخضاع المنتج المعني للتحاليل المخبرية المتخصصة والرد بالدليل العلمي القاطع. فإذا ثبت زيف المزاعم، فإن القانون كفيل بمتابعة المدعي. أما إذا ثبتت صحتها، فعلى الجهات المعنية اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية المستهلك.

قد يجادل البعض بأن المنتجات الغذائية تخضع لرقابة صارمة من المخابر ووزارة الصحة، وبالتالي لا يجوز الطعن في سلامتها الغذائية. وهذا صحيح إلى حد كبير، ولكن هذه التحليلات عادة ما تركز على الأخطار الآنية المتعلقة بالتسممات وتفاعل المكونات داخل الجسم. الأمر لا يتعدى في كثير من الأحيان إلى كشف العلاقة بالسرطانات، لأن هذه المسائل تتطلب دراسات معمقة تمتد لسنوات طويلة.

لذلك، وفي مثل هذه المواقف، ودون استهداف علامة تجارية بعينها، يجب العودة إلى ما تقوله منظمة الصحة العالمية والدراسات المحايدة والموثوقة، حول المنتجات فائقة التحويل والمضافات الغذائية وما نتناوله يوميًا تحت مسمى “التحضيرات الغذائية”. فالعلم هو السلاح الوحيد الذي يمتلكه المستهلك البسيط في مواجهة آلة الدعاية الضخمة للشركات.

السلاح الوحيد الموجود في يد البسطاء هو العلم والتوعية، من خلال الدراسات والأبحاث المنشورة، والرجوع إلى المختصين الموثوقين خارج لعبة “البوز”. كما أن قدرة المنظمات المدنية، مثل جمعيات حماية المستهلك، على استهداف أكبر قدر من الجمهور ونشر الوعي أمر حيوي.

في النهاية، الشيء الوحيد الذي لا تستطيع هذه الشركات إرشاءه هو العقل الواعي الذي لديه القدرة على التحكم فيما يدخل فمه، ويستطيع بذلك النجاة من آلتها الدعائية الضخمة التي تشجع عبر الإعلانات على الاستهلاك المفرط لهذه المنتجات. فهل نختار أن نكون أسرى للخطاب العاطفي، أم أننا سنتسلح بالعلم والوعي لحماية صحتنا ومستقبل أجيالنا؟.

 

* تنويه: المقال مأخوذ من صفحات التواصل الإجتماعي الرسمية للصحفية.

Exit mobile version