استمرارية التوجه الاجتماعي وتحدي التوازن المالي

 

تُظهر وثيقة تأطير مشروع قانون المالية لـ2026 وما بعدها التزامًا حكوميًا راسخًا بـالاستمرارية في التوجه الاجتماعي، معتبرة الدعم الاجتماعي أولوية قصوى في الإنفاق العام وتبرز الأرقام بوضوح ملامح هذه السياسة التي تركز على استقرار الدخول وحماية القدرة الشرائية للفئات الهشة، إلا أنه في المقابل، يثير تساؤلات حول استدامة التمويل في ظل تزايد الإنفاق وتحديات الإيرادات.

يتجلى التعزيز المستمر للسياسة الاجتماعية في عدة مستويات. أولها، ارتفاع كتلة الأجور المخصصة للوظيفة العمومية، التي بلغت 5926 مليار دينار سنة 2026 بزيادة 14% مقارنة بـ2025. هذه الزيادة، التي تُمثل 33.6% من ميزانية الدولة، تعكس حرص الحكومة على استقرار دخول موظفي القطاع العام، وهي خطوة ضرورية للحفاظ على جودة الخدمات العمومية.

ثانيًا، يُعد حجم التحويلات الاجتماعية الموجهة للأشخاص مؤشرًا قويًا على هذا الالتزام. حيث تم رصد 2284 مليار دينار للتحويلات، بما في ذلك مبلغ كبير لـمنحة البطالة (420 مليار دينار) التي يستفيد منها أكثر من مليوني شخص. هذا بالإضافة إلى مبالغ مخصصة لدعم التقاعد (424 مليار دينار). وتُضاف إلى ذلك المبالغ الموجهة لدعم المنتجات الاستهلاكية الأساسية (657 مليار دينار)، مثل الحبوب والطاقة والسكر، بهدف مباشر هو تثبيت الأسعار وتخفيف الضغط المالي عن الأسر.

لم يقتصر الإنفاق على الجانب الاجتماعي فحسب؛ بل خصصت الحكومة 4073.8 مليار دينار لـاعتمادات الدفع لتعزيز البنية التحتية والمشاريع الاقتصادية الحيوية. هذا التخصيص يمثل استثمارًا ضروريًا لخلق فرص عمل وتحسين مستويات المعيشة على المدى الطويل، مؤكدًا أن السياسة المالية تسعى لتحقيق توازن بين الحماية الاجتماعية قصيرة المدى والتنمية الاقتصادية بعيدة المدى.

الوجه الآخر لهذه الزيادة في الإنفاق (المقدر بحوالي 8009 مليار دينار سنة 2026) هو التحدي المالي الكبير الذي تواجهه الميزانية. ففي الوقت الذي يتزايد فيه الإنفاق العام سنويًا (ليصل إلى 8412.7 مليار دينار سنة 2028)، تشير التوقعات إلى تراجع في عائدات الجباية البترولية من 2697.9 مليار دينار سنة 2026 إلى 2513.5 مليار دينار سنة 2028.

هذا التباين بين منحنى الإنفاق المتصاعد ومنحنى الإيرادات البترولية المتراجع، رغم النمو المتوقع في الإيرادات غير البترولية (6.6% سنويًا)، يؤدي إلى استمرار تسجيل عجز ضخم في الميزانية. يقدر هذا العجز بـ5186.6 مليار دينار سنة 2026، أي ما يعادل 12.4% من الناتج الداخلي الخام. ورغم التراجع التدريجي المتوقع في نسبة العجز إلى 11.2% من الناتج سنة 2028، إلا أن هذا المستوى يظل مرتفعًا، مما يضع ضغوطًا على الموارد ويستوجب المزيد من البحث عن مصادر تمويل مستدامة.

يشير التقرير إلى تضخم في طلبات الاعتمادات الميزانياتية من قبل محافظ البرامج، التي فاقت الأسقف المحددة في رسالة التأطير بزيادات كبيرة (23.9% لرخص الالتزام و18.2% لاعتمادات الدفع). ورغم أن الاعتمادات المقترحة للسنة المالية 2026 جاءت أقل من هذه الطلبات بكثير، وبزيادة معقولة (حوالي 6.6% لرخص الالتزام مقارنة بقانون المالية 2025)، فإن نسبة تغطية الطلبات التي بلغت 80% لرخص الالتزام و83% لاعتمادات الدفع تثير تساؤلاً حول كفاءة التخطيط المالي في مرحلة إعداد الميزانية، وضرورة إحكام الرقابة على الطلبات الأولية لتحقيق مرونة أكبر في إدارة الموارد المتاحة.

تُعد ميزانية 2026-2028 مشروعًا ذا طابع اجتماعي بامتياز، يهدف إلى امتصاص الصدمات الاقتصادية والحفاظ على السلم الاجتماعي عبر سياسة الدعم الشامل. لكن النجاح على المدى الطويل يتوقف على قدرة الحكومة على تحقيق تنوع اقتصادي حقيقي يرفع من الإيرادات غير البترولية بشكل يفوق النمو المتوقع (1% سنويًا)، والتحكم في عجز الميزانية الذي يمثل التحدي الهيكلي الأبرز. إن تحقيق التوازن بين الإبقاء على الدعم الاجتماعي الحيوي، وتأمين التمويل اللازم لمستقبل أكثر استدامة، يبقى هو المعضلة الرئيسية التي يتعين على الحكومة حلها في السنوات القادمة.

Exit mobile version