لم يعد الأمر مجرد تكهنات أو تحليل سياسي خجول. الاعتراف هذه المرة جاء صريحاً وموثقاً من قصر “الكيدورسيه” نفسه. وزارة الخارجية الفرنسية أقرّت، بمرارة واضحة، بتراجع نفوذها الثقافي والتعليمي في الجزائر، ذلك الفضاء الذي كان لعقود يُعدّ الرئة التاريخية والحيوية للفرنكوفونية في شمال أفريقيا. إن الرد الكتابي الذي صدر عن الوزارة، مؤرخاً في 23 أكتوبر 2025، يضع النقاط على الحروف في تحول تاريخي بدأ يرسم ملامحه على أرض الواقع الجزائري.
الاعتراف الفرنسي لم يكن مجرداً، بل ارتبط بأحداث سياسية واضحة، أبرزها طرد الدبلوماسيين في أبريل الماضي، وهي الخطوة التي عكست عمق التوتر في العلاقات الثنائية. لكن ما هو أهم، هو ما كشفته الوزارة عن الإجراءات الجزائرية الأخيرة التي تستهدف صميم الحضور الثقافي الفرنسي. إجبار المؤسسات على التخلي عن علامة “تعليم فرنسا”، ومنع إنشاء أي مؤسسة جديدة أو شراكة تربوية إضافية، ليست سوى تكتيكات لـ “الانسحاب المنظم” للنفوذ الثقافي.
لقد كانت الجزائر، بذاكرتها الاستعمارية المعقدة وبنيتها التعليمية التي حافظت على حضور قوي للغة الفرنسية، تمثل آخر “حصن” ثقافي لإشعاع باريس في المنطقة. اليوم، تبدو السلطات الجزائرية وقد قررت سحب تدريجي، ولكن حاسم، لأدوات هذا النفوذ. هذا السحب يتزامن مع توجه رسمي لتعزيز اللغتين العربية والإنجليزية في التعليم والبحث العلمي، لاسيما في التخصصات العلمية والطبية، وهو ما يمثل رداً عملياً على عقود من “الهيمنة اللغوية” الفرنسية.
الأزمة التعليمية التي تواجهها ثانوية “ألكسندر دوما” في بن عكنون، والتي باتت عاجزة عن استيعاب حجم الطلب المتزايد من العائلات الفرنسية والجزائرية، هي دليل مادي على حجم العراقيل المتعمدة. هذه الأزمة، التي تصل فيها نسبة الطلب إلى ستين طالباً مقابل مقعد واحد في بعض الأقسام، ليست مجرد مشكلة إدارية، بل هي نتاج قرار سيادي جزائري يرفض توسيع “شبكة التعليم الفرنسي”.
المثير للاهتمام هو الحل “البديل” الذي طرحته باريس، والمتمثل في “المركز الوطني للتعليم عن بعد”، والذي سرعان ما قوبل هو الآخر بقيود فرنسية داخلية جديدة. تضييق شروط الالتحاق بالمسار “المنظم” للتعليم عن بعد، بحيث يقتصر على القادمين من مدارس فرنسية معتمدة فقط، هو بمثابة اعتراف ضمني بأن الظروف السياسية الراهنة “لا تسمح” بمزيد من المرونة، وأن فرنسا نفسها بدأت تشعر بأن عليها التكيف مع واقع تقلص نفوذها في الجزائر، بدلاً من السعي لتعويضه.
إن ما يجري ليس مجرد خلاف حول مقاعد دراسية، بل هو جزء من عملية أوسع لـ “التحرير اللغوي والثقافي” التي تنتهجها الجزائر، في سعيها لتكريس سيادتها الوطنية بجميع أبعادها، بعيداً عن أثقال الذاكرة الاستعمارية وتوابعها اللغوية. السؤال اليوم لم يعد: هل يتراجع النفوذ الفرنسي؟ بل: متى سيتم طي صفحته بالكامل من المنظومة التربوية الجزائرية؟ الأيام القادمة ستحمل الإجابة، لكن المؤشرات تدل على أن زمن “لغة موليير” كقوة مهيمنة في الجزائر يتجه نحو الغروب.
