
التقرير السنوي للبنك المركزي.. بين إنجازات ملموسة وتحديات عالقة
أصدر بنك الجزائر المركزي تقريره السنوي لعام 2024، والذي يمثل مرجعًا مهمًا لفهم الحالة الاقتصادية للبلاد، وبينما تحمل الأرقام المعلنة بعض الإشارات الإيجابية التي تدعو للتفاؤل، فإنها تكشف أيضًا عن تحديات هيكلية لا يزال الاقتصاد الجزائري يعاني منها، مما يستدعي وقفة تحليلية متأنية.
يُعدّ انخفاض معدل التضخم من 7.18% إلى 4.40% إنجازًا ملموسًا، يعكس نجاحًا في جهود السيطرة على الأسعار وتحسين القدرة الشرائية للمواطنين. كما أن الارتفاع الملحوظ في معدل النمو خارج قطاع المحروقات إلى 4.8% يشكل مؤشرًا إيجابيًا على أن جهود تنويع الاقتصاد بدأت تؤتي ثمارها. هذا التوسع في القطاعات غير النفطية، خاصة قطاع الزراعة الذي يساهم بـ 16.33% من الناتج المحلي الإجمالي خارج المحروقات، يمنح بصيص أمل في بناء اقتصاد أكثر استدامة وأقل اعتمادًا على تقلبات أسواق النفط والغاز العالمية.
لكن الصورة ليست وردية بالكامل. فتقرير البنك يكشف عن تراجع صادرات الجزائر من المحروقات، مما أدى إلى عجز طفيف في ميزان المدفوعات. الأهم من ذلك، التراجع الكبير في الصادرات خارج المحروقات من 5.9 مليار دولار في 2022 إلى 3.835 مليار دولار في 2024 يُعدّ نكسة حقيقية. هذا التراجع يثير تساؤلات جدية حول فعالية السياسات المتبعة لتشجيع التصدير وتنوعه. فبينما تسعى السلطات للوصول إلى 30 مليار دولار من الصادرات غير النفطية بحلول عام 2029، يبدو هذا الهدف طموحًا للغاية في ظل الوتيرة الحالية المتناقصة، وليس المتزايدة.
من جهة أخرى، يظهر التقرير ضعفًا هيكليًا في القطاع الصناعي الذي لا يزال يساهم بـ 5.6% فقط من الناتج المحلي الإجمالي خارج المحروقات. هذه النسبة الضئيلة تؤكد أن الاقتصاد لا يزال بعيدًا عن تحقيق قفزة نوعية في التصنيع، وهو ما يُعدّ ركيزة أساسية لأي نمو اقتصادي مستدام.
وفي القطاع المالي، تبرز بعض النقاط الإيجابية، مثل قوة القطاع المصرفي من حيث كفاية رأس المال (22.82%) ونسبة السيولة (113.8%)، وهما مؤشران على متانة النظام المالي وقدرته على مواجهة الأزمات. كما أن نمو التمويل الإسلامي يشير إلى تزايد الاهتمام بهذا القطاع، مما يوفر خيارات جديدة للتمويل والاستثمار. ومع ذلك، لا يزال حجم الكتلة النقدية المتداولة خارج البنوك مرتفعًا، مما يشكل تحديًا كبيرًا أمام جهود الحكومة لدمج الاقتصاد غير الرسمي.
أخيرًا، يجب التنبيه إلى نقطتين مهمتين: أولًا، ضرورة اعتماد أرقام دقيقة وشفافة. فالتقرير يكشف عن تناقضات بين أرقام البنك المركزي وتلك الصادرة عن جهات أخرى، مما قد يربك الرأي العام والمستثمرين. وثانيًا، التراجع في تحويلات المهاجرين يؤكد على أهمية البحث في أسباب هذا التراجع، بخلاف ما يحدث في دول عربية أخرى، حيث تسجل هذه التحويلات ارتفاعًا مستمرًا.
باختصار، تقرير بنك الجزائر لعام 2024 يبعث برسائل مختلطة. إنه يؤكد على تقدم في بعض المجالات، لكنه يشدد أيضًا على أن التحديات الهيكلية لا تزال قائمة. إن الطريق نحو اقتصاد قوي ومتنوع لا يزال طويلاً، ويتطلب عملًا جادًا ومستمرًا، بعيدًا عن الشعارات والوعود، والتركيز على الإصلاحات الهيكلية التي تعزز الإنتاجية وتشجع التصدير.



