
“غيبلي” ليس مجرد صور ذكاء اصطناعي.. إنه ثورة فنية وإنسانية
في غضون شهر واحد، غزت صور مولدة بالذكاء الاصطناعي تحمل بصمات “استوديو غيبلي” منصات التواصل الاجتماعي كالنار في الهشيم، تطبيقات مدفوعة ومجانية على حد سواء أتاحت للجميع فرصة تخيل أنفسهم وعوالمهم بأسلوب هذا الاستوديو الياباني العريق، ليتحول الأمر إلى ترند استغلته حتى شركات التسويق.
لكن خلف هذا الانتشار الواسع، ثارت زوبعة من الجدل حول حقوق الفنانين، وحول قيمة الفن الحقيقي الذي يستلزم سنوات من الجهد والإتقان، والذي يبدو وكأنه يستهان به بهذه السهولة، حتى أن مخرجة الأنمي ميغومي إيشيتاني علقت بغضب: “لقد شوّهتم إرث غيبلي. لن أسامحكم أبدا”.
لا شك أن هذا الترند عرف الكثيرين بـ “غيبلي”، الاستوديو الذي اشتهر بأنماط رسم فريدة، حتى أن البعض قد يربطه بمسلسلات أنمي كلاسيكية مثل “عدنان ولينا” للمخرج الأسطوري هاياو ميازاكي، لكن “غيبلي” أعمق بكثير من مجرد أسلوب فني يمكن تقليده بضغطة زر، إنه يمثل الوجه النقيض لـ “ديزني”، رؤية سينمائية متفردة أسسها ثلاثة مبدعين هم هاياو ميازاكي، وإيساو تاكاهاتا، وتوشيو سوزوكي.
منذ فيلمهم المؤسس “ناوسيكا أميرة الوادي” عام 1984، وضع ثلاثي “غيبلي” أسس عالم رسوم متحركة مختلف. هنا، تحتل البيئة مكانة البطل الرئيسي، وتأتي الشخصيات النسائية قوية وفاعلة، كما يرفض الاستوديو تجميل الواقع، بل يعرض عالما على شفير الانهيار، مقولة ميازاكي في مهرجان نيويورك السينمائي عام 2005 تلخص هذه الرؤية: “أعتقد أن الأطفال يدركون، بديهيا، أن العالم الذي ولدوا فيه ليس مباركا”.
هذا الوعي البيئي أصبح حجر الزاوية في أعمال “غيبلي”، حيث لم تعد الطبيعة مجرد خلفية، بل كيانا حيا ذا إرادة، أما البطلات، فقد كنّ شخصيات ناضجة، يتعلمن ويفشلن ويواجهن ويتخذن قراراتهن بأنفسهن، هذه الأفكار لم تأت من فراغ، بل كانت نتاج نضال طويل خاضه مؤسسو “غيبلي” في ستينيات القرن الماضي، حين ثاروا على عالم الرسوم المتحركة التقليدي مطالبين بحقوق الفنانين وحرية إبداعية أوسع، هذا التمرد النقابي زرع البذور الأخلاقية التي قامت عليها فلسفة “غيبلي”: الدفاع عن الكرامة الإنسانية، ومقاومة السلطوية، واحترام الإبداع كفعل أخلاقي وليس مجرد ترفيه.
لم يكن “غيبلي” مجرد اسم لمخرج واحد، بل شراكة عميقة بين قيم متوافقة وأساليب فنية متباينة، فبينما يحتفى بميازاكي غالبا كواجهة الاستوديو، كان إيساو تاكاهاتا الروح الأخرى التي وضعت قدم “غيبلي” على أرض الواقع، متناولا موضوعات الحرب والذاكرة والحياة اليومية. المفارقة الدرامية بين فيلم ميازاكي “جاري توتورو” وفيلم تاكاهاتا “قبر اليراعات” عام 1988 تجسد هذا الاختلاف العميق في الرؤية.
حتى في رفضهم لقوانين السوق، كان “غيبلي” صلبا، قصة رفض ميازاكي لطلب هارفي وينستين بتقليص مدة فيلم “الأميرة مونونوكي” وإرسال سيف ساموراي حقيقي كرسالة واضحة، تؤكد على سياسة الاستوديو الصارمة في الحفاظ على سلامة أعمالهم الإبداعية.
إن العمل في سينما “غيبلي” ليس مجرد تفصيل عابر، بل مكون جمالي وفلسفي مركزي، ولحظة أخلاقية وإنسانية وسياسية تعرّف فيها قيمة الأفراد من خلال مساهمتهم وجهدهم هنا يكمن جوهر “اليوتوبيا الغيبلية” ليس مجتمعا مثاليا، بل إمكانية العيش معا رغم كل شيء.
صحيح أن “غيبلي” فتح أبوابه لجيل جديد من المبدعين، لكن الوعي الاجتماعي والمجتمعي ظل حاضرا بقوة في أعمالهم، حتى القصص التي تبدو شخصية تخفي في طياتها نقدا للطبقية والعزلة وفقدان الدفء الإنساني في المجتمعات الحديثة.
في الختام، يجب التأكيد على أن “غيبلي” ليس مجرد أسلوب رسم يمكن استنساخه بسهولة إنه تجربة سينمائية متكاملة، مؤثرة في تاريخ الأنمي، وقفت ضد تسليع الطفولة والطبيعة، وقدمت أفلاما مختلفة عن الصورة النمطية التي رسختها “ديزني”، موجة صور الذكاء الاصطناعي قد تكون وسيلة للتعريف بجمالية “غيبلي”، لكنها في الوقت نفسه تثير تساؤلات جوهرية حول قيمة الإبداع البشري وحقوق الفنانين في عصر التكنولوجيا المتسارع فهل هذا الترند هو احتفاء حقيقي بإرث “غيبلي” أم مجرد استيلاء سطحي على روحه الإجابة لا تزال قيد النقاش لحد الآن بين المهنيين والمبدعين في كل أرجاء العالم.
* تنويه: المقال مأخوذ من صفحات التواصل الإجتماعي الرسمية للصحفية.